التخطي إلى المحتوى

بقلم المهندس حاتم نبيل

مع اقتراب افتتاح المتحف المصرى الكبير، تتجدد ملامح الفخر فى وجدان كل مصرى، فليس الحديث هنا عن صرح أثرى فحسب، بل عن عنوان لإرادة دولة تُعيد قراءة تاريخها بأدوات العصر، لتصوغ مستقبلًا يليق بحضارة صنعت قيم التنظيم، والعمارة، والإدارة منذ آلاف السنين.

لقد أدرك المصري القديم أن بناء حضارة لا يتحقق بالفنون وحدها، ولا بالعلوم بمفردها، بل بإدارة واعية تنظم العمل، وتوزع الأدوار، وتتابع الأداء، وتشيد لمشروعات وفق حسابات دقيقة للموارد والزمن. ويكشف المتحف المصري الكبير جوانب عديدة من هذا الإرث الإداري من خلال معروضاته ووثائقه ونصوصه، التي توثق وجود أجهزة إشراف، وسجلات، وتقارير محفورة على جدران المقابر والمعابد.

كما تشير الاكتشافات الأثرية القديمة والحديثة إلى مقابر مسؤولين وكتبة ومشرفين على أعمال الدولة، تحمل على جدرانها نصوصًا حفظت لنا المهام والمسؤوليات، وتقسيمات العمل، وآليات المتابعة، وحركة المواد الخام في المشروعات، وحساب الأجور، ومعدلات الإنجاز في المشروعات الكبرى، وهي شواهد قوية على أن عقل الدولة المصرية كان منظمًا، نجاحاتها المعمارية لم تكن مصادفة، بل نتيجة منظومة عمل متقنة.

إن افتتاح المتحف المصري الكبير يُعزز مكانة مصر العالمية كدولة ذات ذاكرة حضارية حية، قادرة على تحويل تراثها إلى مصدر قوة ناعمة، وجذب سياحي، وتعليم ثقافي للأجيال الجديدة، وهو أيضًا يعكس رؤية الدولة المصرية الحديثة، التي تضع الإصلاح الإداري في صدارة توجهاتها، وتبني سياسات إدارة موارد بشرية رشيدة، وبناء كفاءات قادرة على إدارة برامج التحول المؤسسي بكفاءة.

وفي هذا السياق، يواصل الجهاز المركزي للتنظيم والإدارة دوره في تحديث هيكل الجهاز الإداري للدولة، والارتقاء بالمهارات الحكومية، واعتماد نظم تدريب واختبارات مؤسسية تضمن الاختيار على أساس الكفاءة والجدارة، بما يحافظ على استدامة الأداء وجودة الخدمات العامة. إنها رحلة تطوير تؤكد امتداد العقل المصري الإداري من ماضيه إلى حاضره.

إن المتحف المصري الكبير ليس مجرد وجهة سياحية، بل مدرسة مفتوحة يتعلم منها الزائر كيف تُدار دولة منذ فجر التاريخ؛ كيف تُوزع المهام، وتتابع الأعمال، وتسجل الإنجازات، وتبنى المشروعات الوطنية وفق رؤية واضحة وقيم صلبة، وهو في الوقت ذاته شاهد حي على أن الحضارة المصرية كانت — ولا تزال — حضارة عقل يخطط، وإدارة تنظم، وإرادة تنجز.

وفي ظل دعم القيادة السياسية، تتواصل جهود الدولة لترسيخ قواعد الإدارة الرشيدة، وتفعيل منظومة الحوكمة، وبناء جهاز إداري قادر على تنفيذ رؤية مصر للتنمية المستدامة. وهو ما يعزز ثقة المواطن في جودة الخدمة العامة، ويرسّخ هوية مهنية جديدة للجهاز التنفيذي.

وفي الختام، يظل المتحف المصري الكبير محطة مضيئة في سجل الدولة المصرية الحديثة، ودليلًا جديدًا على أن هذه الأمة تحمل في جيناتها قدرة دائمة على التنظيم، والبناء، وصناعة المستقبل. فكما أثبت أجدادنا أن الحضارة تدار بالعقل قبل أن تشيد الحجر، تثبت مصر اليوم أن الإدارة الواعية هي الركيزة الأساسية لكل نهضة .. وستبقى مصر عقلًا ،يفكر وإدارة تنجز، وحضارةً تلهم العالم.

نقلاً عن : اليوم السابع