التخطي إلى المحتوى

تُعد «السوشيال ميديا» واحدة من أهم الظواهر الحديثة التي غيرت شكل الحياة في العصر الرقمي، إذ أصبحت جزءًا لا يتجزأ من يوم الإنسان المعاصر، فكل فرد اليوم يحمل في يده نافذة مفتوحة على العالم من خلال تطبيقات «السوشيال ميديا» المتنوعة التي تجمع بين التواصل والترفيه والمعرفة، إلا أن هذا الحضور الطاغي لتلك الوسائل الرقمية لم يخلُ من آثار نفسية واجتماعية متعددة، بعضها إيجابي يسهم في تطوير الذات والانفتاح على الآخرين، وبعضها الآخر يحمل بين طياته مخاطر خفية تؤثر في الصحة النفسية والعلاقات الاجتماعية.

السوشيال ميديا وتأثيرها النفسي

تؤثر «السوشيال ميديا» بشكل مباشر على الحالة النفسية للمستخدمين، إذ تُحدث حالة من المقارنة المستمرة بين حياة الفرد وما يراه من صور وحكايات الآخرين التي تبدو دائمًا مثالية، هذه المقارنات قد تزرع شعورًا بالنقص أو بعدم الرضا عن الذات، مما يؤدي إلى القلق أو الاكتئاب أو حتى الانعزال، كما أن «السوشيال ميديا» تغذي أحيانًا «الإدمان الرقمي» حيث يجد المستخدم نفسه يقضي ساعات طويلة في تصفح المنشورات والقصص القصيرة دون وعي بالوقت، وهذا السلوك يؤثر على التركيز والنوم والحالة المزاجية العامة.

ويشير خبراء علم النفس إلى أن الاستخدام المفرط لتطبيقات «السوشيال ميديا» يؤدي إلى اضطرابات في إفراز هرمون الدوبامين في الدماغ، وهو الهرمون المسؤول عن الإحساس بالمكافأة والسعادة، إذ يصبح الإنسان مرتبطًا بتفاعل الآخرين مع منشوراته من إعجابات وتعليقات، فيتحول الشعور بالسعادة إلى أمر مرهون بالقبول الافتراضي من الآخرين، مما يجعل الفرد يعيش في دائرة مغلقة من القلق والتوتر والخوف من فقدان هذا التفاعل.

السوشيال ميديا والعلاقات الاجتماعية

من ناحية أخرى، كان الهدف الأساسي من إنشاء منصات «السوشيال ميديا» هو تعزيز التواصل بين الأفراد وتسهيل التواصل مع الأصدقاء والأقارب في مختلف أنحاء العالم، وبالفعل نجحت هذه المنصات في تقريب المسافات وخلق جسور تواصل بين الشعوب والثقافات، إلا أن الجانب الآخر كشف عن مفارقة مثيرة، إذ أصبح التواصل الواقعي بين الناس أقل حضورًا، وحل محله التواصل الافتراضي البارد، فبينما تزداد قائمة الأصدقاء على الشاشة، تقل العلاقات الحقيقية في الواقع.

أصبحت اللقاءات العائلية أقل دفئًا بسبب انشغال الجميع بالهواتف، وأضحى الحوار المباشر نادرًا، مما أثر في «الروابط الاجتماعية» التي كانت تُبنى على التفاعل الإنساني المباشر، كما أن الخلافات الافتراضية على «السوشيال ميديا» قد تتحول إلى خصومات حقيقية بسبب سوء الفهم أو النقاشات الحادة التي تفتقر إلى نبرة الصوت وتعبيرات الوجه.

السوشيال ميديا وبناء الصورة الذاتية

تؤدي «السوشيال ميديا» دورًا خطيرًا في تشكيل صورة الإنسان عن ذاته، حيث أصبحت المنصات فضاءً لعرض «النسخة المثالية» من الحياة، فالكثيرون لا يظهرون سوى لحظات السعادة والنجاح والجمال، مما يخلق صورة غير واقعية عن الحياة، ويجعل الآخرين يشعرون بأن حياتهم أقل قيمة أو متعة، وهذا بدوره يؤثر في تقدير الذات والثقة بالنفس.

وفي المقابل، هناك من يستخدم «السوشيال ميديا» كوسيلة للتعبير عن الذات ونشر الإيجابية والإبداع، فيوظفها لنشر الفن والمعرفة أو للمشاركة في حملات التوعية المجتمعية، وهو جانب مشرق يوضح أن الاستخدام الواعي لتلك الوسائل يمكن أن يكون محفزًا للنمو الشخصي والاجتماعي.

الجانب الإيجابي للسوشيال ميديا

رغم كل التحديات النفسية والاجتماعية، لا يمكن تجاهل أن «السوشيال ميديا» قدمت للعالم مزايا كبيرة، فهي مساحة للتعلم الذاتي ومصدر سريع للمعلومات، كما ساهمت في تعزيز «حرية التعبير» ونشر الوعي بقضايا إنسانية وبيئية مهمة، بالإضافة إلى دعم المشروعات الصغيرة من خلال التسويق الرقمي الذي غير خريطة الاقتصاد في العالم، كما مكّنت الكثير من الأشخاص من اكتشاف مواهبهم والتواصل مع جمهور واسع بطريقة لم تكن ممكنة في السابق.

كيف نحافظ على توازننا النفسي والاجتماعي؟

لكي نحافظ على «الصحة النفسية» في ظل هيمنة «السوشيال ميديا»، لا بد من إدارة الوقت بذكاء، ووضع حدود واضحة لاستخدام المنصات، مثل تخصيص أوقات محددة للتصفح وتجنب استخدام الهاتف قبل النوم، إضافة إلى التركيز على التواصل الواقعي مع العائلة والأصدقاء، لأن «العلاقات الحقيقية» تظل المصدر الأساسي للدعم العاطفي والاستقرار النفسي، كما يُنصح بممارسة أنشطة يومية بعيدة عن العالم الافتراضي مثل القراءة أو الرياضة أو التأمل، لاستعادة التوازن الذهني والجسدي.

الوعي هو الحل

إن الحل لا يكمن في الهروب من «السوشيال ميديا» بل في «الوعي» بكيفية التعامل معها، إذ يجب أن يكون الإنسان هو من يسيطر على التكنولوجيا وليس العكس، فحين نستخدم هذه المنصات كوسيلة لتطوير الذات وتوسيع المعرفة ومشاركة الخير، تصبح أداة بناء، أما حين نتركها تتحكم في مشاعرنا وسلوكنا، فإنها تتحول إلى مصدر ضغط نفسي واجتماعي.

تبقى «السوشيال ميديا» مرآة لواقع الإنسان المعاصر، تعكس طموحاته ومخاوفه وتغيراته، وهي دعوة دائمة لأن نستخدمها بحكمة، وأن نعيد التوازن بين «العالم الافتراضي» و«العالم الحقيقي»، حتى نحافظ على صفاء نفوسنا وصلابة علاقاتنا، فالتواصل الإنساني الحقيقي لا يُقاس بعدد المتابعين، بل بعمق الروابط التي تبقى رغم غياب الشاشة.

نقلاً عن : القارئ نيوز